الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد :
فهذا تلخيص لهذه المسألة من كلام أهل التحقيق ،كشيخ الإسلام ابن تيمية (1)، وتلميذه العلامة ابن القيم (2)، والعلامة الشيخ الفقيه محمد بن صالح العثيمين(3) – رحمهـم الله جميعاً – فأقول مستعيناً بالله :
لقد قرر شيخ الإسلام – رحمه الله – بأنه لا فرق بين قوله : أنت طالق ثلاثاً وبين قـوله : أنت طالق ، ثم أنت طالق ، ثم أنت طالق ، سـواءً نوى التأكيد أم لا ، وسواءً نوى الثلاث أم لا ، وذلك كما في مجموع الفتاوى 33 / 7 ، 8 ، 67 ، 71 ، 73، 76 – 77 ، والاختيارات صـ 256 ــ ، ط القديمة ،صـ 367 ـ، ط دار العاصمة .
وقال القرطبي في تفسيره 3 / 129 :
(( ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعتين في كلمة ، أو متفرقة في كلمات )) .
وقال الشيخ محمد بن عثيمين – رحمه الله – :
(( ليس بين ذلك فرق لا من حيث اللغة ، ولا من حيث الدليل ، ولا من حيـــث أقوال العلماء )) ا.هـ من رسالته في الطلاق الثلاث ( مخطوطة ) صـ 13 ــ .
قال شيخ الإسلام – رحمه الله – في الفتاوى 33 / 8 : -
(( وهذا القول – يعني عدم وقوع الثلاث بكلمة أو كلمات إلا طلقة واحدة – منقول عن طائفة من السلف والخلف من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مثل الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس القولان ، وهو قول كثير من التابعين ومن بعدهم : مثل طاووس وخلاس بن عمر ومحمد بن إسحاق ، وهو قول داود وأكثر أصحابه ويروى ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر بن محمد ، ولهذا ذهب إلى ذلك من ذهب من الشيعة ، وهو قول بعض أصحاب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل )) .
ثم قال – رحمه الله – :
(( وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة ، فإن كل طلاق شرعه الله في القرآن في المدخول بها إنما هو الطلاق الرجعي ... )) ا.هـ
والأدلة على ذلك ما يلي :
أولاً : قوله تعالى : (( الطلاق مرتان )) سورة البقرة ، الآية رقم ( 229 ) .
والطلاق المعتد به ما كان طلاقاً للعدة على وجه مباح مأذون ، فيه ومن طلق ثلاثاً متتابعة فقد وقعت الثانية لغير العدة ، لأنها لا تستأنف بها العدة ، وهذا الطلاق مردود لقوله – صلى الله عليه وسلم – : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أخرجه مسلم ، في الأقضية ، برقم ( 1718 ) .
ثانياً : قوله تعالى : (( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء )) سورة البقـرة ، الآية رقم ( 228 ) .
والقائلون بوقع الثلاث المتعاقبات يقولون إنها لا تستأنف العدة بالطلقة الثانية وهذا دليل على أنها ليس بطلاق وإلا لزم استئناف العدة بها أو مخالفة القرآن بإثبات طلاق بعد الدخول لا عدة فيه .
ثالثاً : قوله تعالى : (( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة )) سورة الطلاق ، الآية الأولى .
فالطلاق المأمور به ما كان في استقبال العدة ، أما الطلاق التابع لطلاق آخر من غير رجعة بينهما لا تستقبل به العدة فلا يكون مأموراً به ، وقد دل الحديث على أن من عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد .
رابعاً : حديث (( كان الطلاق الثلاث على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ... )) ، أخرجه مسلم في الطـلاق ، برقم ( 1472 ) .
وهذا الحديث عام فيشمل طلاق الثلاث المتتابعات ، والطلاق بكلمة واحدة .
خامساً : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – في طـلاق ركانة لزوجته ثلاثاً في مجلس ، وفيه قوله – صلى الله عليه وسلم – : (( فإنما تملك واحدة فراجعــها إن شئت فراجعها )) ، أخرجه الإمام أحمد برقم ( 2387 ) ، 1 / 265 ، وأبو داود في الطلاق برقم ( 2196 ) ، و أبو يعلى ، والحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي في مختاراته ، التي هي أصح من صحيح الحاكم ، كما قاله شيـخ الإسـلام – رحمه الله – في الفتاوى 33 / 13 .
وقال– رحمه الله – : إسناده جيد ، وله شاهد من وجه آخر رواه أبو داود .ا.هـ من الفتاوى 33 / 85 .
وقال ابن القيم – رحمه الله – حكم الأئمة بهذا السند بعينه في حديث تقدير العرايا وأخذوا به وعملوا بموجبه ا.هـ من إغاثة اللهفان 1 / 287 – 288 ، وزاد المعـاد 5 / 264 .
وقال – رحمه الله – : (( وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه )) ا.هـ من الإعلام 3 / 31
فظاهر حديث كانة أدل على عدم وقوع الثلاث المتعاقبات منه على المجموعة بلفظ واحد بلا تكرار ، وذلك من ثلاثة وجوه :
الأول : أنه هذا هو المتبادر إلى الذهن .
الثاني : أنه لو كان هناك فرق بين كونها بكلمة واحدة ، أو كلمات لا ستفصل النبي – صلى الله عليه وسلم – منه ، ولبَيَّن له ذلك .
الثالث : أنه لو كان بكلمة واحدة لذكر ، لأنه أخص من كونه في مجلس واحد ، ولا يترك الأخص إلى ما هو أعم .
وقد اعترف كثير من الموقعين للثلاث بأن الطلاق المذكور يشمل ما وقع متعاقباً .
سادساً : قولـه – صلى الله عليه وسلم – : (( من عملا عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أحرجه مسلم ، في الأقضية برقم ( 1718 ) .
فقوله : (( عملاً)) نكره في سياق الشرط فيعم كل عمل يكون تارة موافقاً وتارة مخالفاً ، وهذا احتراز من العمل الذي لا يقع إلا على وجه محرم فقط كالظهار ، فإنه يعمـل به وإن لم يكن عليه أمر الله ورسوله ، فإذا وقع – يعني العمل الذي يوافق تارة ويخالف تارة – على الوجه الذي ليس عليه أمر الله ورسوله فهو رد ، والطلاق من الأعمال .
فإن قيل : هذا يقتضي أنه إذا جمع الثلاث بأي صيغة فإن الطلاق لا يقع أصلاً ؛لهذا الحديث .
فالجواب : أن الأحاديث دلت على وقوع الطلاق واحدة – كحديث ابن عباس وحديث ركانة – اعتباراً بأصل الطلاق وإلفاءً للوصف المحرم .
سابعاً : قوله – صلى الله عليه وسلم – : (( كل شرط ليس في كتاب فهو باطل ، وإن كان مئة شرط ، قضاء الله أحق ، وشرط الله أوثق )) ، أخرجه البخاري برقم ( 2168 ) ، ومسلم ، برقم ( 1504 ) .
فإن قلنا : إن الحديث يعم كل ما التزم به الإنسان وألزم به نفسه ، فإنه يشمل العقود، والفسوخ ، والشروط التي يشترطها أحد المتعاقدين ، ومن الفسوخ الطلاق ، فإنه فسخ وحل لقيد الزوجية أو بعضه ، وإن قلنا : إن الشروط هنا خاصة بما يشترطه أحد المتعاقدين ، فإنه يقاس عليها العقود ، والفسوخ قياساً جلياً ، لا تفاقهما في العلة ، وهي وقوع ذلك على وجه لا يوافق كتاب الله .
فإن قيل : إذا نوى الثلاث بهذا اللفظ : (( أنت طالق ، وطالق ، وطالق )) وأرادها فهل يقع كما نواه ؟
فالجواب : بأن ذلك مشروط بموافقة الشرع ، فإذا خالف الشرع فهو مردود ، فلا بد هنا إن تكون الطلقة الثانية بعد رجعة صحيحة ، والمرأة مستقبلة للعدة ، وهكذا الطلقة الثالثة ، فكما أنه إذا طلقها وهي حائض لا يقع الطلاق على الصحيح – مع أنه قد نواه وأراده فكذلك هنا لمخالفة الشرع في المسألتين ، فإذا وجد ما نع ، أو فات شرط ، فلا طلاق ، حتى وإن كرره ونواه .
ثم بعد ذلك نقول : إن الله إذا حرم الشي فإن المقصود به عدم إيجاده وعدم تصحيحه ، إن كان له حكم بصحة وفساد ، فإذا نفذنا الطلاق الثلاث مع قولنا بتحريمها ، فنخشى أن يكون هذا خلاف مقصود الشارع ، لأن تنفيذه إيجاد له ، والمقصود من التحريم خلاف ذلك .
بهذا يتضح لنا جلياً : أن الطلاق الثلاث لا يقع إلا واحدة ، سواءً كان بكلمة واحدة ، أو بكلمات ، وأنه لا فرق بين الصورتين ، هذا ما اختاره شيخ الإسلام (4) – أعلم أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد فقهاء الصحـابة رضي الله عنهم – وتلميذه العلامة ابن القيم (5)، والعلامة الشيخ عبد الرحمن بن سعدي (6)(7) وتلميذه العلامة الشيخ محمد بن عثيمين (
– رحمة الله على الجميع – والله أعلم .
وإلى هنا انتهى ما أردناه ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)انظر مجموع الفتاوى 33 / 7 – 98 ، 130 ، 156 .
(2)انظر إغاثة اللهفان ، ط . المعرفة ، 1 / 283 – 338 ، وزاد المعــاد ، ط . الرســالة ، 5/ 247 – 271 ، والإعلام ، ط. الجيل ، 3/ 30 – 50 ، وتهذيب السنن ، ط . المعرفة ، 3 / 124 – 128 .
(3)انظر رسالته في الطلاق الثلاث ، مخطوط ، وشرحه للزاد والبلوغ المسجل عن طريق الأِشرطة .
(4)انظر هامش ( 1 ) .
(5)انظر هامش ( 2 ) .
(6)انظر المختارات الجلية ، ط . مركز ابن صالح ، صــ 173 – 174 ـ ، والأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ، وهي الرسائل الشخصية العلمية المرسلة من الشيخ / عبد الرحمن بن ناصر السعدي إلى تلميذه الشيخ / عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل ، ط . دار المعالي ، ودار ابن الجوزي صـــ 93 ــ .
(7)قال العلامة الشيـخ / محمد بن عثيمـين : كان شيخــنا عبد الرحمن بن سعـدي – رحمه الله – يفتي بذلك سراً ا.هـ
(
انظر هامش ( 3 ) .